ظل المطر الملك
عدد المساهمات : 133 تاريخ التسجيل : 30/03/2013 العمر : 55 الموقع : بحر الكلمات و سهول العبارات ,وقمم المعاني
بستان العارفين اسم المستخدم:
| موضوع: المخطوط العربي الثلاثاء أبريل 23, 2013 11:19 pm | |
|
نحو تأسيس علم مخطوطات عربي: التجربة الغربية
الدكتور أحمد شوقي بنبين
مدير الخزانة الحسنية ـ الرباط
من الصعوبة بمكان في الوقت الراهن تحديد ما يسمى بـ»ـعلم المخطوط« تحديداً نهائياً، وذلك بالرغم من تلكم التعريفات المتعددة المتناثرة في مختلف الدراسات الغربية كتباً كانت أو أبحاثاً منشورة في الدوريات المتخصصة. والسبب في ذلك هو أن هذا العلم ما زال في بداياته الأولى، وطبيعي أن تختلف الآراء وتضطرب المواقف بين ذوي الاختصاص في تحديد هذا المولود الجديد. ولابد لنا في حالة إقدامنا على دراسة المكونات التأسيسية لعلم مخطوطات عربي حديث أن نشير بإيجاز إلى نشأة هذا العلم في الغرب ونحدد الأشواط التي قطعها عند الفيلولوجيِّين في أوربا المهتمين بالدراسات العلمية للنصوص التراثية الغربية، اليونانية واللاّتينيّة منها على الخصوص. فإذا كانت دراسة المخطوط عند الفيلولوجيين وسيلة لممارسة عملية نقد النصوص، فإنها عند هذه الفئة الجديدة التي يدعى أصحابها بالكوديكولوجيين مادة أساسية تدرس لذاتها، باعتبار أنه لا يمكن البحث في توثيق نص من النصوص وتحقيقه ودراسته دون الإلمام بالأسس المادية وتحديد الظروف العلمية والاجتماعية التي تم خلالها إنجاز المخطوط، ثم معرفة الطرق التي وصل إلينا بها هذا النص.
إن الكوديكولوجيا علم يستمد أصوله ومقوماته من أعمال الفيلولوجيين الكلاسيِّين الفرنسيين منذ القرن السابع عشر، خصوصاً تلكم التي قام بها الرهبان البندكتيون في الكنائس والأديرة كالراهب مونتفوكون (Montfaucon) [1741 م] الذي يعتبر كتابه Bibliotheca bibliothecarum، أي مكتبة المكتبات أو ببليوغرافيا خزائن الكتب من أهم مصادر هذا العلم. وبالرغم من اتفاق المختصين في هذا المجال على استقلالية العلم، فإنهم اختلفوا في تعريف مفهومه وتحديد مكوناته. إن الكوديكولوجيا عند ألفونس دان (Alfonse Dain) ـ وإليه ينسب وضع هذا اللفظ Codicologie ـ هو العلم الذي يهدف إلى دراسة المخطوط باعتباره قطعة مادية دون الاهتمام بالخط. وبهذا تستقل الكوديكولوجيا عن الباليوغرافيا التي كانت تعني »علم المخطوط« بالإضافة إلى »علم الخطوط القديمة« ([1]). إن هذا الاستقلال جعل مهمة الكوديكولوجي تشبه من بعض الوجوه مهمة الأركيولوجي الذي يهدف إلى إعادة بناء القطعة الأثرية المكتشفة لتمكِّنه من دراسة حضارة من الحضارات الماضية. إنه جزء من التاريخ يدرس الكتاب المخطوط بوصفه موضوعاً مادياً، أي بوصفه وعاء للنص([2]). لهذا اقترح أحد العلماء البلجيكيين مازي (Masai) عبارة »آثارية المخطوط« (archéologie du manuscrit) للتعبير عن علم المخطوط فقال: »الكوديكولوجيا هي أركيولوجيا الكتب التي تعتبر أغلى وأنفس آثار حضارة معينة«. وبرر مازي هذه التسمية بأن لفظ »كوديكس« (Codex) اللاّتيني الذي يكون جزءاً من كلمة كوديكولوجيا (codicologie) يستثني كل ما ليس بكتاب كالقراطيس واللفائف والرقم الطينية وما ماثلها من الأوعية القديمة التي يطلق عليها اللاّتينيون لفظ Volumen، ويعني باللاّتينية اللفافة أو »الطومار« بالتعبير الشرقي.
وللخروج من هذا الغموض، لجأ بعض العلماء إلى استعمال عبارة أعم وأوسع من شأنها أن تعبر عن كل ما هو مكتوب، بما في ذلك اللفائف واللوحات الطينية، وهي »الكوديكولوجيا الوسيطية« (codicologie médiévale) بمعناها الواسع الذي يشمل »الكوديكس« بالإضافة إلى الأوعية القديمة سالفةِ الذِّكر. وأخيراً، اقترح الفيلولوجي البلجيكي جلبير وي (Gilbert Ouy) عبارة »وثائقية المخطوط« (archivistique du manuscrit)، لأن الكوديكولوجي الذي يبحث بحثاً مادياً في مجموعات المخطوطات يكاد يشبه في طريقته ومنهجه في البحث تلكم الطرق التي يستعملها الوثائقي في بحث الوثائق ودراستها.
وفي محاولة للنهوض بعلم المخطوطات وإيماناً منهم بتقدمه وتطويره، ارتأى المختصون في هذا المجال والذين كانوا يفكرون ويعتبرون أن دراسة المخطوط ما كانت إلاّ إحدى الوسائل لدراسة التحولات الثقافية في مجتمع من المجتمعات، أن يعتمدوا مقاربة معاكسة تتجلى في جعل التاريخ الثقافي أداة ووسيلة للبحث في تاريخ المخطوط. وقد يتم هذا بدراسة الأرصدة الضخمة من المخطوطات المحفوظة في خزائن العالم دراسات خاصة تمكنهم من الإجابة عن العديد من التساؤلات مثل: ما عدد المخطوطات التي نسخت في جهات خاصة في فترة معينة من فترات التاريخ؟ وما الوسائل المستعملة لإنجازها؟ وكيف كانت التكلفة؟ وما المردود الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لهذه العمليات؟ إلى غير ذلك من التساؤلات التي كانت تخامرهم عندما كانوا يحاولون وضع المخطوط في محيطه المادي والتاريخي والجغرافي. وهنا يلجأ الكوديكولوجيون إلى ركوب البحث الكمي في دراسة علم المخطوط، لأنه هو الطريق الوحيد الذي قد يمكن من تموقع الكتاب في سياق إنتاج الكتب في عصره ويمكن من تقدير الخصائص الفردية للمخطوطات في الزمان والمكان. ولتحقيق هذه الأهداف، عمل الفرنسيون في الثلاثينيَّات من القرن الماضي على تأسيس معهد في إطار المركز الوطني للبحث العلمي (C.N.R.S) لدراسة المخطوطات دراسة كوديكولوجية سموه »معهد البحث وتاريخ النصوص«. وكانت الشعب البارزة فيه هي: شعبة المخطوطات اليونانية، وشعبة المخطوطات اللاّتينية، وشعبة المخطوطات الفرنسية الوسيطية ومخطوطات عصر النهضة([3]). وقد أضافوا فيما بعد شعبتين لدراسة المخطوطات العبرية والعربية لما تبين لهم أن الدراسات الكوديكولوجية الخاصة بمخطوطات الشرق الأوسط شبه منعدمة؛ كما تأكد لديهم أن مناهج البحث والقواعد التي وضعوها لدراسة المخطوطات الغربية قد يمكن تطبيقها في دراسة المخطوطات الشرقية([4]).
وقد جهزوا هذا المعهد الفريد بمختبر علمي لدراسة المخطوط دراسة علمية مستعيرين من أجل ذلك تقنيات علم الفيزياء وعلم الكيمياء لصيانة المخطوطات والحفاظ عليها كالتحليل الكيميائي للأمدة والأحبار والأوعية؛ كما استعملوا ما يسمى بالهولوغرافيا (holographie) التي تمكنهم من المقارنة بين الخطوط والبتارديوغرافيا (bétaradiographie) لمعرفة ما يسمى بالفليغران (filigranes) أو علامات الكاغد المائية وغيرها من التقنيات التي حلت مجموعة من المشاكل المطروحة على مستوى المخطوط كان حلها من قبيل المستحيل حتى الآن كقراءة الحروف التي اندثرت وفك رموز النصوص التي محيت أو انطمس بعضها لسبب من الأسباب.
وعلى الرغم من إحداث شعبة في هذا المعهد لدراسة المخطوط العربي كوديكولوجيّاً، فإن النتائج لم ترق إلى ما وصلت إليه باقي الشعب، بما في ذلك الشعبة العبرية. فبقيت الكوديكولوجيا العربية حقلاً بكراً لم يهتم به إلاَّ في العقود الأخيرة من القرن الماضي، وذلك من خلال مجموعة من الدراسات القليلة التي نشرها ثلة من المستشرقين الهولنديين أو بعض الفرنسيين أمثال فون كننسفلد (Von Koninksfild) وفيتكام (Withkam) وفيكرز (Wiguers) وديروش (Déroche) وآخرين يمكن عدهم على رؤوس الأصابع. وأما تلكم الدراسات حول المخطوط العربي التي وضعها بعض الرواد من المستشرقين والمحدثين من العرب منذ النصف الأول من القرن الماضي كـ"الخطاطة العربية" (Arabic Paleography، 1905 م) للعالم موريتز (Moritz) و"الكتاب الإسلامي" (The Islamic Book) لمؤلفيه توماس أرنولد (T. Arnold) وأدولف كرومان (A. Grohmann) و"الكتاب العربي" (The Arabic Book) للعالم الدنماركي جوهانيس بدرسون (Johannes Pederson) و"الكتاب العربي المخطوط إلى القرن العاشر الهجري" لصلاح الدين المنجد وغيره من ذوي الاختصاص كقاسم السامرائي في كتابه عن علم الاكتناه ـ أقول إن تلكم الدراسات وهذه الأعمال على أهميتها واهتمامها بالمخطوط العربي، من حيث النشأة والنساخة والتجليد والوراقة والخط وغيرها، لم تجب عن التساؤلات التي يطرحها علم المخطوط الحديث وفق مكوناته وقواعده وأساليبه. شأن هؤلاء المحدثـين عربـاً ومستشرقين شأن أسلافنـا العلماء ـ رحمة الله عليهم ـ فيما يخص العناية بالمخطوطات. فلا يستطيع أحد أن ينكر أياديهم البيضاء على هذا التراث؛ فقد قيدوا أوابده ووضعوا كتب الفهرسات والتراجم والمؤلفات التي اهتمت بالكتاب المخطوط كتابة وقلماً وصناعة وتجليداً وتذهيباً واصطلاحاً وتجارة وما إلى ذلك مما عبر عنه الأقدمون بالوراقة التي جعلها ابن خلدون شاملة للانتساخ والتصحيح والتسفير وسائر الأمور الكتبية والدواوين، غير أنها لم تتعرض للتقنيات والجزئيات والحفريات والمعالجات التي تفرضها مقومات الكوديكولوجيا الحديثة ومكوناتها.
ما مكونـات هذا العلم إذن؟ وما العناصر الأساسية التي يجب معالجتها وتناولها لتأسيس علم مخطوط عربي؟ وما المهام والوظائف المنوطة بهذا العلم؟
إن مكونات علم المخطوط العربي وعناصره ووظائفه لا تختلف كثيراً عن مكونات الكوديكولوجيا الغربية، ما دامت المناهج والقواعد الحديثة التي وضعت لدراسة المخطوط الغربي يمكن تطبيقها على المخطوط الشرقي، بالرغم من الفوارق الكثيرة بين الشرق والغرب. وأول مهام الكوديكولوجي غربياً، كان أو شرقياً، هي وضع القوائم والكشافات لمجموعات مخطوطات الخزائن تمهيداً لوضع فهارس علمية مبنية على قواعد ثابتة. فإذا خطا الغربيون خطوات مهمة في هذا المجال، فإن التراث العربي المخطوط ما زال يفتقر إلى كشاف شامل لهذا التراث بالرغم من الجهود المبذولة هنا وهناك في مختلف جهات المعمور. ولتحقيق هذه الغاية، يجب القيام بمسح شامل لهذا التراث على مستوى البلاد العربية، ثم البلاد الإسلامية([5]). ثم نختم بإحصاء للمخطوطات العربية المحفوظة في خزائن العالم.
وقد يمكن هذا الإنجاز من تحقيق بعض العناصر الأساسية لتأسيس علم مخطوط عربي، وهي وضع فهارس علمية أولاً، ثم وضع الفهارس الموحدة (catalogues collectifs) التي تعتبر اللبنة الأولى لوضع فهرس دولي موحد يضم جميع المخطوطات العربية، ثم القيام بفهارس حسب الفنون كفهارس المخطوطات الطبية والفلاحية وكتب الصنعة وغيرها، ثم فهارس بالمخطوطات الفريدة والنادرة، وأخرى بالمخطوطات المؤرخة([6])، وأخرى بالمخطوطات القديمة أو الأصلية، وأخرى بالمزخرفة والخزائنية، أو فهارس خاصة بمخطوطات عالم واحد مختصرة أو مطولة، إلى غير ذلك من الفهارس العلمية التي نراها وضعت لتراث الغرب. وظهور بعض الأعمال من هذا القبيل في جهة من الجهات وبشكل انفرادي قد لا يعني أننا في الطريق القويم للقيام بهذه المهمة الأساسية من مهام علم المخطوط العربي. وإذا كانت الفهرسة من عناصر علم المخطوطات القليلة التي تمارس في العالم العربي والتي يمكن اعتبارها مكوناً أساسياً من مكونات علم المخطوط، فإن اختلاف المناهج وتضارب الآراء بين المشتغلين بها من حيث النمط المتبع والبطاقة النموذجية لا تساعد على البت في هذه القضية بتاً نهائياً يمكننا من المرور إلى باقي المكونات كالقيام بوضع ما يسمى بـ»فهارس الفهارس«.
إن أول محاولة شبه رسمية لهذا النوع من الفهارس هي تلكم المحاولة التي قام بها المستشرق الألماني بروكلمان في الجزء الأول من كتابه الكبير "تاريخ الأدب العربي"، بالرغم من ندرة الفهارس الخاصة بالتراث العربي المخطوط حتى نهاية القرن التاسع عشر وهو الزمن الذي وضع فيه هذا المستشرق كتابه (1898 م). وقد تتابعت المحاولات إلى الثمانينيّات حين وضع العالم العراقي كوركيس عواد كتابه "فهارس المخطوطات العربية في العالم" مروراً بالمستشرق الفرنسي فاجدا في كتابه "دليل الفهارس وقوائم المخطوطات العربية" (1949 م) وويسمان (Huisman) في كتابه "المخطوطات العربية في العالم"، ثم كتاب فؤاد سيزكين "تاريخ التراث العربي". ولا يفوتنا هنا الإشارة إلى المحاولات الطموحة في هذا المجال التي يضطلع بها كل من معهد المخطوطات العربية ومعهد آل البيت لبحوث الحضارة الإسلامية في الأردن.
ويبقى التراث العربي المخطوط حتى الآن مفتقراً لهذه العملية التي من شأنها إعطاء فكرة عن أرصدة المخطوطات العربية في العالم، وبالتالي تبرز إلى حد ما وضعية هذا التراث ومدى اهتمام أهل الاختصاص به. ومما يدخل في صميم الكوديكولوجيا القيام بوضع فهارس النساخ والمجمعين وهواة الكتب ومجموعات المخطوطات أو الخزائن. لا يخفى على الباحثين في التراث القديم وأصحاب التحقيق تلكم المشاكل التي صدرت عن النساخ طوال التاريخ الإسلامي. إن جهل النساخ والسرعة في النسخ واختلاف الأذواق والمذاهب والعقائد والاتجاهات السياسية وغيرها وما ترتب على ذلك من تصحيف وتحريف وسقط وخلل ـ كل ذلك خلَّف أثره في التراث المخطوط، الأمر الذي يدعو إلى القيام بمجموعة من الأعمال العلمية لمعالجة هذه المشاكل يكون أولها وضع فهارس للنساخ ومونوغرافيات خاصة بهم تمكن الكوديكولوجيين من التعريف بهم والبحث في حياتهم وسلوكهم وتخضعهم لنظرية الجرح والتعديل على غرار ما فعل المحدثون برواة الحديث. أما البحث في الخزائن ومجموعات الكتب وفي أصحابها ومالكيها وفي مصادر المخطوطات وتناقلها بين الخزائن والدول والأشخاص وما شابه ذلك قد يمكن المختصين من الإجابة عن بعض التساؤلات التي تؤرقهم وتشغل بالهم مثل التساؤل عن الأيدي التي تناولت الكتاب وتصفَّحته وتملكته وقرأته وحشته وعلقت عليه، وعن المكتبات أو المجموعات الخطية التي كان ينتمي إليها المخطوط، ثم عن الطرق التي مر منها في تناقله بين هذه المجموعات إلى أن استقر به الأمر في خزانة معينة. إن من شأن هذا البحث أن يساعد على اكتشاف الأسباب التي دعت إلى ضياع مخطوط معين بعدما استفاد منه المؤلفون ونقلوا منه أو اقتبسوا. وما أكثر تلكم المؤلفات التي اقتبس منها وضاعت مع الزمن! وقد حاول بعض المحدثين من الغيورين على هذا التراث أن يعملوا على إيجاد المفقود من الموجود، فجمعوا مجموعات من النصوص التي فقدت أصولها من بطون ما هو موجود من كتب التراث، فسلكوا طرقاً ووضعوا قواعد للبحث عن هذه المصادر وتلكم النصوص([7]). ويدخل في هذا الإطار البحث عن أسماء مؤلفي الكتب المجهولة المؤلف، وما أكثرها في كتب التراث العربي! إن كتب التراجم والفهرسات والمؤلفات البيبليوغرافية العربية ملأى بالمصنفات التي لا نعرف لها مؤلفاً. وقد يمكن العثور على هذه الأسماء، بالرغم من الصعوبات التي يفرضها مثل هذا البحث الذي لا يستطيع خوض غماره إلاّ ذوو التجربة من جهابذة العلماء المتمرسين على التعامل مع التراث.
وفي هذا الإطار كذلك، تطرح قضية مصطلح علم المخطوط، وهو حقل ما زال بكراً. إن غياب معجم بهذه المصطلحات يترتب عليه القصور في الوصف وعدم الدقة في الفهم والتعريف. فما أوفر تلكم الألفاظ الخاصة بالمخطوطات لا نفهم معناها، منها الفارسي والتركي والهندي والعربي! وما أكثر تلكم الحالات التي تواجهنا في مجال الاختصاص نحتاج إلى الألفاظ للتعبير عنها والتعريف بها!
إن معالجة هذه القضايا وما ماثلها مما يدخل في صميم علم المخطوط من طرف ذوي التجربة والعلم الواسع والإحاطة الكاملة بكتب التراث والتعمق في معرفة الكاغد والحبر والجلد والرق والتسفير والأقلام والزخرفة والتصوير والخطوط وما إلى ذلك هي التي تقعد العلم وتضبطه وتقننه. يقول أحد المحدثين: »إن علم المخطوطات تجارب تحتاج إلى التقعيد، وقواعد تحتاج إلى المصطلحات، واصطلاحات تحتاج إلى التعريفات، وضوابط تحتاج إلى التقنين، ومعارف تحتاج إلى التدوين، وخبرة تحتاج إلى التلقين«. ومما يدعو إلى التفاؤل هو تلكم المبادرات التي تجلت في إقامة ندوات دولية خاصة بمخطوط الشرق الأوسط نال منها المخطوط العربي حظه كالندوة الدولية عن الكوديكولوجيا في باريز سنة 1984 م، وندوة اصطانبول سنة 1986 م، وندوة كلية آداب الرباط سنة 1992 م عن "المخطوط العربي وعلم المخطوطات"، وندوة مؤسسة الفرقان بلندن سنة 1993 م: "دراسة المخطوطات الإسلامية بين اعتبارات المادة والبشر"، وندوة باريز سنة 1994 م، والندوات الأخيرة في إيطاليا وفي معهد المخطوطات بالقاهرة الذي لا يستطيع أحد أن ينكر جهوده في هذا المجال. كل هذه الندوات قد تمخضت عن أعمال طبع معظمها كما طبعت إلى جانبها أعمال تدخل في صميم الكوديكولوجيا العربية كالكتاب الذي نشرته ثلة من الفرنسيين بإشراف الأستاذ ديروش عن الكوديكولوجيا العربية و"معجم المصطلحات التقنية والببليوغرافيا" الذي نشره العالم الكندي آدم كادجيك (A. Gacek). وبالرغم من هذه المحاولات الطموحة الفردية، فإن علم المخطوط العربي ما زال يحبو. وإذا أردنا له الوقوف على رجليه ويخطو خطوات علمية ناجحة على غرار ما حدث عند الغربيين، فلابد من إحداث مؤسسة على مستوى الفضاء العربي تكون مرجعاً يرجع إليه للبتِّ في القضايا سالفة الذكر وفي غيرها ومكاناً تتداول فيه المعالجات المقترحة الخاصة بهذه القضايا، مستفيداً من التجربة الغربية في مجال الكوديكولوجيا، متنوراً بعقول أسلافنا النيرة ومستقطباً لذلك مجموعة من خيرة أهل العلم وذوي الاختصاص والتجربة المعاصرين المتمرسين بالتعامل مع المخطوطات الذين مات معظمهم وبدأت تجنح للغروب شمس من بقي منهم. وإن غياب هذه المؤسسة التي يمكن أن تكون البؤرة التي تصب فيها جهود هؤلاء الأعلام والتي يمكن اعتبارها بمثابة المحتسب يعني تشجيع مواصلة الأبحاث الفردية في مجال لن يتقدم ويتطور إلاّ في إطار العمل الجماعي والاستمرار في ترك الحبل على الغارب في ميدان من الميادين الحيوية في صناعة العلم وتخريجه.
([1]) كان العلماء الألمان يقولون »الباليوغرافيا التطبيقية أو التاريخية« (Paléographie) للتعبير عن علم المخطوطات قبل أن يستعملوا لفظ هاندشغيفتنكونده (Handschriftenkunde)، واحتفظوا بلفظ »باليوغرافيا« لعلم الخطوط القديمة.
([2]) Albert Derolez, Codicologie des manuscrits en écriture humanistique sur parchemin, p. 7.
([3]) هناك جماعة للبحث في الإنسانيات الفرنسية (l’humanisme français) في القرنين الرابع والخامس عشر الميلاديين تدرس مخطوطات هذه الفترة دراسة كوديكولوجية.
([4]) وقد نشروا مجموعة من الأبحاث المهمة أفاد منها علم المخطوط الحديث. والدليل على ذلك هو أنهم درسوا التراث اليوناني المخطوط بالمناهج نفسها التي درسوا بها التراث اللاّتيني، بالرغم من كون التراث اللاّتيني تراثاً موروثاً وملكاً لهم، وكون التراث اليوناني تراثاً وافداً.
([5]) نشير هنا إلى الاستبانة التي وضعتها الإسيسكو عن مشروع حماية المخطوطات وصيانتها في الدول العربية والإسلامية.
([6]) إن التاريخ الدقيق أو التقريبي للمخطوطات يمكن من إعطاء قواعد متينة لتاريخ النصوص؛ كما يعمل على تقدم الدراسات الباليوغرافية التي تبحث في علم الخطوط وتاريخها وتطورها.
([7]) عثر على كثير من النصوص الشعرية والنثرية والفقهية في بطون الكتب، خاصة منها ما يسمى بـ»المؤلفات الموسوعية«، وهي نصوص منقولة أو مقتبسة من كتب ضاعت ولم نعرفها إلاّ بالاسم. انظر: حكمت بشير ياسين، القواعد المنهجية في التنقيب عن المفقود من الكتب والأجزاء التراثية.
| |
|